تراهم يتناقشون في السياسة كالكبار.. يعلو صوتهم بين الفترة والأخرى بهتافات حماسية تكاد تخلو من نغمة الطفولة الاعتيادية.. أحدهم يلف على عنقه كوفية سوداء فتحاوية، وآخر يلف كوفية خضراء حمساوية.. وإذا ما قرروا أن يمارسوا دورهم الفطري بالحياة من خلال اللعب تجدهم يختارون لعبة الفدائي والمحتل، أو حتى دور ذلك الشهيد المحمول على الأكتاف والجميع يهتف من حوله بالروح بالدم نفديك يا شهيد.
أما كراسة الرسم التي يصطحبها إلى مدرسته في كل يوم فقد أصبحت تشكل لوحات يترجم من خلالها صورة الواقع الذي يعيشه: الخيمة بدل ذلك البيت المتهدم، وإطار سيارة مشتعل يتصاعد منه الدخان الأسود بدلا من تلك الشجرة الخضراء أو الوردة زاهية الألوان.
وبين هذين المشهدين يعلو المشهد الآخر لأولئك الأطفال الذين تحولت بسمتهم إلى دمعة، ودميتهم إلى حجارة، وطمأنينتهم إلى خوف ورعب حتى في ساعات النوم؛ فبدل الأحلام البريئة تنتابهم موجه من الكوابيس اللعينة!.
حال باتت تعيشه طفولة فلسطين نتيجة القهر الشيطاني الذي تمارسه آلة الحرب الإسرائيلية، والسؤال هنا: إن كان المشهد الظاهري كذلك فكيف يمكن أن يكون المشهد الذهني والفكري والنفسي لهذه الطفولة؟ وما هو الأثر المستقبلي على طفولة فلسطين؟... أسئلة كثيرة تحير العقل إذا ما تعمق بالتفكير فيها.
لوحات تتحدث..
بين جنبات حقيبته المدرسية يحفظ الطفل بهاء غسان ابن العاشرة كراسة رسمه، التي حوّل غالبية صفحاتها إلى لوحات فنية خط عليها واقعا يعيشه غالبية شعبه.
فهاهي اللوحة الأولى في أحد زواياها طائرة بلونها الأزرق تحمل علم الكيان المحتل وهي تمطر بصواريخها المنهمرة أطفالا صغار، سقط أحدهم شهيدا، بينما الطفل الآخر داخل البيت يصرخ ويستغيث. وفي الزاوية الأخرى للوحة كتب عبارة أغيثوا أطفال غزة، تعبيرا عن الاستهداف الإسرائيلي للمدنيين والأطفال في هجمته على القطاع.
أما اللوحة الثانية التي حملتها كراسة رسم بهاء فهي تنقل لنا وقائع رحى المعركة الدائرة ما بين المقاومين ودبابات الاحتلال؛ فبينما تحاصر عدد من الدبابات إحدى المناطق الفلسطينية، يقوم عدد من المقاومين بالدفاع عن أنفسهم بإطلاق الرصاص والصواريخ على هذه الدبابات.
يقول بهاء: هذه حياتنا، وهذا ما هو حولنا، وأنا زهقت رسم الأشجار والورد، ولم يبق شيء أخضر حولنا لأن اليهود دمروه بدباباتهم.
أما عن الحلم المستقبلي له فيقول بهاء: أحلم أن أصبح أستاذا أعلم الأطفال القراءة والكتابة، لكني أخاف إن كان سيبقى هذا الاحتلال موجودا أم لا، فهو يشكل لي كابوسا.
أما الطفل براء 11 عاماً فحال كراسة رسمه لا تحمل هي الأخرى سوى لوحات غطتها البقع الحمراء، ومشاهد الدمار، يقول براء: في المدرسة يتيح لنا المدرس أن نعبر عما نريد بالرسم؛ فكل منا يرسم ما يتخيله، وأكثر شيء يراه أو قريب منه.
واقع يتحدث..
وإن انتقلنا من اللوحات الفنية لنقل صورة الواقع فها هو مركز فنون الطفل الفلسطيني ليس الوحيد من مراكز التأهيل والطفولة في الضفة الغربية، بل هو واحد من بين عشرات المراكز التي تحاول أن تضع برامج مختلفة علها تنقذ ما تبقى من الطفولة التي سلبتها ممارسة الاحتلال الإسرائيلي.
على مدخل مركز فنون المتواجد في مدينة الخليل جنوب الضفة تبدو الصورة أكثر تعبيرا من غيرها، فما تلبث أن تعد الدقائق حتى تعد معها العديد من الأمهات والآباء المراجعين مصطحبين معهم أطفالهم إما لتسجيلهم بالمركز أو إشراكهم بالنشاطات اليومية والأسبوعية والشهرية التي يقيمها من حلقات ترفيه وعلاج نفسي أو حتى لجعلهم يشعرون بمعنى الطفولة ولو للحظة واحدة في العمر.
جدران المركز تحولت جميعا للوحات عرض معلق عليها عشرات وربما مئات اللوحات التي رسمها الأطفال، كل منها تحكي فكرة وتوثق معاناة، وتتحدث عن حلم ومستقبل، كما يقول سميح أبو زاكية مدير المركز.
ويضيف أبو زاكية -الإخصائي في مجال الطفولة والناشط في الدفاع عن حقوق الأطفال- لموقع وسطية أون لاين.نت: لم يعد أطفالنا يتمتعون بالحماية النفسية المطلوبة نتيجة الأحداث الدموية التي تحدث في المدن الفلسطينية سواء بالضفة أو القطاع.
ويتابع: إن مظاهر الخوف والقلق والتوتر ظاهرة يعيشها الأطفال في فلسطين بشكل عام، وبدأت تبرز حجم هذه المأساة أو الظاهرة من خلال رسومات الأطفال التي غلب عليها مشاهد العنف الذي يتعرضون له، لقد خلت رسوماتهم من كل مظاهر الحياة الطبيعية، ولم تعد تظهر في رسوماتهم سوى مشاهد القتل والدبابات والطائرات وصور الأطفال الذين يتعرضون للقصف.
وحول دلالات ذلك في رسوم الأطفال يقول أبو زاكية: هذا إن دل على شيء فإنه يدل على حجم المأساة التي يعيشها الأطفال؛ فالطفل يرسم ظروف حياته التي يعيشها، والفنون وكذلك اللعب من أهم الوسائل التي تساعد الأطفال على تفريغ الضغوطات التي تعرضوا ويتعرضون لها.
نمط حياة جديد..
زاكية في أن اللعب هو المرآة التي من خلالها نستطيع أن نرى عالم الطفل الداخلي، ونكشف بواسطتها عما يعتمل في داخله من صراعات أو أمنيات، وكذلك سلوك الطفل في اللعب هو ترجمة حقيقية لنفسيته من ناحية، وللواقع الذي يعيشه من ناحية أخرى.
ويتفق الأستاذ غسان ذوقان -أستاذ علم النفس في جامعة النجاح الوطنية- في دراسة له أعدها تحت عنوان أثر الانتفاضة على لعب الأطفال الفلسطينيين، مع أبو
ويشير ذوقان في دراسته إلى أن العديد من التفسيرات والاستنتاجات التي خرجت بها الدراسات أشارت إلى أن الصورة التي يكون عليها الطفل في هذه المرحلة من حياته (الطفولة) تعطينا مؤشرا لما سيكون عليه عندما يكبر.
ويؤكد ذوقان استناداً للعديد من الدراسات التي حللها أن ممارسات الاحتلال خلقت لدى الأطفال نزوات مزاجية، ومن السهل أن ينتقلوا من الهدوء إلى ذروة الانفعال في وقت قصير نسبيا ليتحولوا إلى عدوانيين.
وينبه إلى أن الأطفال تحت هذا الاحتلال أصبحوا يعيشون نمط حياة جديدة؛ فهم يستيقظون على أصوات الرصاص، ودوي الانفجارات، وقنابل الصوت، وصافرات الاقتحام للأحياء والشوارع وسيارات الإسعاف، وصراخ الجنود، إضافة إلى استنشاق الأطفال وذويهم الغاز السام والمسيل للدموع.
ويوضح استنادا إلى دراسات عديدة أن مئات الأطفال أصيبوا بعاهات دائمة وشلل في الأطراف والعمود الفقري، إضافة إلى العشرات الذين أصيبوا بفقدان بصرهم بعدما تعرضوا للضرب والقمع من قبل الاحتلال والمستوطنين.
وعن مدى انعكاس ذلك على مراحلهم الحياتية المقبلة يرى ذوقان في دراسته أن ممارسات الاحتلال بحق الأطفال الفلسطينيين تركت آثارا نفسية مختلفة عليهم مثل التوتر والإحباط والعجز والتشوهات النفسية واكتئاب الطفولة، كما أن القمع الذي تعرض له الأطفال الفلسطينيون حرمهم من أن يعيشوا المرحلة الأساسية (الطفولة) من نموهم بشكل طبيعي؛ وهو ما يعرض مراحل نموهم اللاحقة (المراهقة والرشد) للاضطراب النفسي.
11 مشكلة نفسية وسلوكية ..
وجاءت نتائج دراسة أعدها الباحث النفسي أحمد بكر بعنوان الوضع النفسي للطفل الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، لتوضح أن العديد من الأطفال الفلسطينيين يعانون من 11 مشكلة نفسية وسلوكية، من أبرز المشكلات النفسية الاكتئاب والخوف، ومن أبرز المشكلات السلوكية عدم الانصياع لأوامر وتعليمات الآباء.
ومن المشكلات السلوكية أيضا التشاجر مع الآخرين، ومشكلة التشويش على الآخرين، بالإضافة إلى مشكلة عدم تحمل المسئولية والشعور بالغيرة وعدم الرغبة في الاستيقاظ صباحا.
كما كشفت الدراسة أن بعض الأطفال يعانون من اضطرابات النوم والكوابيس الليلية، بالإضافة إلى الخوف من الخروج من المنزل، وكذلك الارتعاب والخوف من جنود الاحتلال.
وطالب بكر الجهات المعنية بالعملية التربوية والتعليمية إلى جانب الأهالي الاعتناء بالأطفال، وتغيير طرق التعامل معهم بما يتلاءم مع الواقع الجديد الذي يعيشونه في ظل الاستهداف المتواصل لأطفال فلسطين من قبل الاحتلال.
حماية الأطفال
ويتفق الخبراء النفسيون على ضرورة إيجاد قاعدة شاملة وبرنامج متكامل لحماية الطفولة الفلسطينية، ومحاولة تغير ما يمكن تغيره من الواقع النفسي الذي بات يعيشه الأطفال.
يقول أبو زاكية: إن حماية الأطفال النفسية تعد مسألة مهمة، وعلينا أن نعمل بكل الإمكانات على إعادة أطفالنا إلى حياتهم الطبيعية. وحماية الأطفال ليست كلمة؛ بل هي مجموعة من البرامج الاجتماعية التي تهدف إلى الارتقاء والنهوض بالطفل في مختلف المجالات النفسية وتوفير الاحتياجات الضرورية له ليتمكن من العودة إلى الحياة بشكل طبيعي.
ويؤكد أبو زاكية على أن تأثيرات تلك الأحداث سيكون لها نتائج وخيمة على الأطفال إذا لم نبادر منذ لإعادة الأطفال إلى الحياة من جديد.
وبالنسبة للمطلوب على المستوى الوطني يقول سميح أبو زاكية بأن علينا مهمة إعادة الأطفال إلى وضعهم النفسي الطبيعي من خلال مجموعة برامج تعمل على تفريغ الضغوطات التي تعرض لها الأطفال الذين عاشوا الظروف الدموية الصعبة، وكذلك العمل على رعايتهم في كافة المجالات: الصحية والتعليمية والنفسية والاجتماعية والترفيهية.
وطالب أبو زاكية بتشكيل لجنة وطنية من المؤسسات ذات العلاقة بالطفولة، يكون مهمتها بالدرجة الأولى رصد الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الطفل وتقديم التقارير إلى الجهات المعنية.
من جهته يضيف ذوقان إلى ما ذكره أبو زاكية ضرورة الاهتمام بتعيين مرشدين متخصصين في التربية وعلم النفس في المدارس من أجل حل المشكلات النفسية والسلوكية التي يعاني منها الأطفال، بالإضافة إلى إعطاء الأطفال الفرص الكافية لممارسة الألعاب في المدارس ومراكز الطفولة؛ وذلك لتفريغ الطاقات المشحونة داخلهم نتيجة القهر والحرمان الذي يتعرضون له.
ونوه ذوقان إلى ضرورة تشكيل لجان مختصة لمعالجة المشكلات الاجتماعية والنفسية، وإقامة مراكز تأهيل لإعادة دمج الأطفال بالمجتمع الفلسطيني بشكل فاعل.
أرقام توثق..
إحصائية نشرها منتدى رغم الحدود الذي يهتم بمواضيع الأطفال الفلسطينيين، بين عامي 2000 و2005 (أي في الثلاث سنوات الأولى من انتفاضة الأقصى) أن 69% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 4 و14 عاما يعانون من اضطرابات نفسية تتمثل في:
وتوثق بعض الإحصائيات ما يتعرض له الأطفال الفلسطينيون؛ حيث أظهرت
أ- نوبات بكاء في أثناء النوم.
ب- شعور بالخوف من الوحدة.
ج- شعور بالخوف من الظلام.
د- تبول لا إرادي.
كما أشارت الإحصائيات إلى أن هناك اضطرابات على الصعيد الأدائي والسلوكي، وهي كما يلي:
- 49.8% ذكور + 41.9% إناث تدهور أداؤهم الدراسي.
- 18.9% ذكور + 12.1% إناث باتوا يتسمون بمظاهر العنف.
- 52.5% ذكور + 53.8% إناث زاد تعلقهم بالأم أو أحد أفراد الأسرة نتيجة خوفهم من الوحدة أو العزلة.
- 85% من الأطفال الفلسطينيين شهدوا حادثا عنيفا ضدهم أو ضد أحد أقربائهم من العائلة.
- 39% من الأطفال الفلسطينيين خسروا أحد أفراد عائلتهم.
- 54% من الأطفال تعرضوا لسجن قبل بلوغ السابعة عشرة؛ حيث لا يزال عدد لا بأس به منهم قيد الاعتقال في سجون الاحتلال.