شارك محمد دحلان في اللقاءات العلنية والسرية التي عقدها ياسر عرفات مع رؤساء الحكومات الاسرائيليين باستثناء ارييل شارون. لم يغفر شارون لعرفات خروجه حياً من بيروت رافعاً اشارة النصر، وكان الزعيم الفلسطيني بارعاً في استفزاز خصمه حين تواجها مجدداً على أرض فلسطين.
وهنا نص الحلقة الثالثة:
كيف كانت علاقة ياسر عرفات مع آرييل شارون؟
- عرفات لم يجتمع مع شارون رسمياً. ما حدث هو الآتي: كانت غرفة الاجتماعات التي التقى فيها «أبو عمار» مع شارون وجهاً لوجه هي في مفاوضات تسليم الخليل التي رعاها الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون في واي ريفر عام 1998. حينها، كان بنيامين نتانياهو رئيساً للوزراء وشارون وزيراً للخارجية، وهو الأكثر تشدداً وتطرفاً. وبدأنا مفاوضات حول آلية اللقاء بين الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي في وجود كلينتون. وكان عدد المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية أكثر من عدد الليبراليين.
أبلغ شارون الإدارة الأميركية أنه لا يريد مصافحة ياسر عرفات، فقرر الوفد الفلسطيني بالإجماع عدم مصافحة شارون، فدارت مفاوضات ليوم كامل، شاركت فيها مع صائب عريقات في وجود دنيس روس. وتم التوافق على أن يدخل شارون بمفرده من مدخل آخر بعد إكمال بروتوكول المصافحة، ويجلس مع الوفد الإسرائيلي.
كان المفاجئ أن «أبو عمار» دخل معنا في مشادة، فقال إنه لا يعنيه إذا صافحه شارون أم لا، فقلنا إن هذه مسألة جوهرية وليست شكلية. كنا سندخل في مفاوضات صعبة، وهذا افتتاح، فلم يصافحه أبداً.
لم يصافحه أبداً؟
- أبداً. لكن المضحك أنه في الليلة الأخيرة بعد 11 يوماً من المفاوضات، بدأنا في الثامنة مساء واستمرت (المفاوضات) حتى السابعة صباحاً. كانت اللقاءات في قاعة كبيرة من طابقين، وتواجدت الإدارة الأميركية كلها والوفدان الإسرائيلي والفلسطيني في منطقة واحدة من دون طاولات. وكان كلينتون يطلب كل وفد بمفرده في غرفة جانبية للتداول.
في الرابعة صباحاً، طلب كلينتون وزيرة خارجيته مادلين أولبرايت ووفده لتقويم الموقف، وطلب من الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي الجلوس في غرفة واحدة. وبعد أن شغل الجميع مقاعدهم، لم يتبقَ لشارون سوى مقعد مواجه لمقعد عرفات، فجلس مصادفة في جواره. لم يجرؤ شارون على النظر في عيني «أبو عمار»، فطلب مني عرفات أن أذهب للتحدث إلى شارون لفتح مجال للعلاقة. لكن علاقتي معه كانت سيئة جداً، الى درجة أنه هدد في مؤتمر صحافي بسجني إذا زرت مكتبه مع «أبو مازن». وحين جاء رئيساً للحكومة، حاولنا أكثر من مرة ترتيب لقاء بينه وبين «أبو عمار»، لكن شارون رفض... وغاب الرجلان من دون أن يلتقيا أو يتصافحا.
وماذا كان عرفات يقول عن شارون؟
- كان يستفزه دائماً. كان «أبو عمار» استفزازياً مع شارون. كان يقول دائماً: سأهزمه كما هزمته في بيروت. وحين يسمع شارون هذه الكلمات يُستفز، فيشكو عرفات إلى الوفود الأجنبية التي تزوره ويشكو إلى وسائل الإعلام. شارون شخصن الصراع مع «أبو عمار»، وكان يحمل له أحقاداً شخصية، وعرفات كان ملكاً في استفزازه.
كم رئيس حكومة تعاطى معه «أبو عمار»؟
- إسحق رابين، وشمعون بيريز، وإيهود باراك، ونتانياهو، وشارون. كان رابين أفضلهم بالنسبة إليه، لكن الإسرائيليين اغتالوه قبل أن تنضج العملية. في آخر أيام رابين، كان هناك توافق مثالي بينهما. كنت من المشاركين في ذلك، وكان هناك من طرف رابين شخص اسمه يوسي غينوسار تُوفي لاحقاً بالسرطان، وهو فقد أحد أبنائه على حاجز ايريز حين قتله أحد ضباط الأمن الوقائي. لكن غينوسار كان أكثر مجتهد في تطوير العلاقة بين رابين و «أبو عمار» لمصلحة الشعبين، وهو الوحيد الذي امتلك الجرأة في الانتفاضة الثانية ليكتب مقالاً في مصلحة عرفات، على رغم أنه كان ممثلاً لرئيس الحكومة.
هل كان هناك احترام بين رابين وعرفات؟
- كان هناك احترام كبير. ولكن بعد ذلك فُقِد الاحترام وفُقدت العلاقة بينه وبين رؤساء الحكومات (الإسرائيلية)، باستثناء بيريز، لكن العلاقة معه كانت غير منتجة لعملية السلام.
وكيف كانت العلاقة مع باراك؟
- كانت بينهما لقاءات كثيرة، لكن العلاقة كانت جافة لأن باراك معقد على المستوى الشخصي، ليست له صداقات، ومن الصعب أن يبنيها.
هل كان صعباً على «أبو عمار» مصافحة قاتل «أبو جهاد»؟
- لا، «أبو عمار» لم تكن لديه عقد. كان يصافح ويمازح، لكنه متمسك بمواقفه، وحين ننتقل إلى طاولة المفاوضات يتحول إلى شخص آخر.
هل كانت له معهم لقاءات سرية؟
- كثيرة. مع الجميع باستثناء شارون، معظمها كان سرياً، في منازلهم وفي فنادق.
هل كان يذهب إلى القدس؟
- لا. المرة الوحيدة التي دخل فيها القدس كانت في عهد باراك. كان يحلم بأن يرى المسجد الأقصى، أحد الأشياء التي جعلتني راضياً عن نفسي في خدمتي مع ياسر عرفات، هي أنني أدخلته القدس الشرقية سراً. وسار بمحاذاة سور المسجد الأقصى في الساعة الثانية فجراً.
وما ملابسات هذه الزيارة؟
- جاءت مصادفة. كان عرفات في بيت لحم يحتفل بقداس عيد الميلاد، وحدث أن الملك عبدالله الثاني طلبه للقاء سريع وضروري في عمّان. كان الموعد صباحاً، فطلب أن نسأل عن إمكان السفر ليلاً. قلت له دعنا نجرب، لأن حجج الإسرائيليين كثيرة. وتحدثت إليهم، متعللاً بأن الزيارة مرتبطة بدرس الوضع الأمني، وطلبت السفر براً عبر القدس. ساعدني في ذلك أحد مساعدي باراك، فجاءت الموافقة في الثانية فجراً. ولم يصدق «أبو عمار»، وتحركنا مروراً بالقدس وباب العمود إلى أريحا.
في رأيي، كانت هذه أكثر اللحظات عاطفية في حياة ياسر عرفات من خلال معرفتي المتواضعة به. كان مشهداً استثنائياً مؤثراً. بدا «أبو عمار» منبهراً، وتحدث عن ذكرياته في القدس قبل العام 1967، حكى عنها كحلم. كان إلى جوارنا في السيارة نبيل أبو ردينة، وبقي مذهولاً من دخول عرفات القدس. كان شرط الإسرائيليين ألاّ تعلن الزيارة، لكنهم كشفوها لاحقاً، واستُجوب رئيس الوزراء لسماحه لرئيس السلطة بدخول القدس.
كيف كانت العلاقة مع نتانياهو؟
- صعبة. لكن الأقوى والأصلب كان «أبو عمار». كانت علاقة نار وحديد لا يوجد فيها أي قاسم مشترك، عكس العلاقة المنسجمة مع رابين. أنا ساهمت في عقد اللقاء الأول مع نتانياهو، وكان مضحكاً. كان نتانياهو يريد بناء أسس للعلاقة مع عرفات، خصوصاً أنه كان يلوم سلفيه رابين وبيريز على تساهلهما مع «أبو عمار». لذلك، رفض لقاءه فترة طويلة حتى اشترطت الإدارة الأميركية أن يلتقي عرفات إذا أراد زيارة واشنطن. فاضطر إلى ذلك قبل زيارته الأولى، فأرسل وفداً لتنظيم الزيارة.
لا أزال أتذكر هذا كأنه حدث أمس. اختار نتانياهو محاميه الذي كان أحد مستشاريه وشخصاً آخر متشدداً كان ممثل إسرائيل في نيويورك. ووصل الاثنان سراً إلى غزة، فطلب مني كالعادة أن أعدّ بعض المعلومات عنهما وأحضرهما من ايريز.
في الطريق اتصلت به بواسطة الهاتف، فطلب مني إحضارهما إلى منزله، لا إلى مكتبه. فقلت له إنهما جاءا بتعليمات تقول إن علينا فعل كذا وكذا... مما اعتدنا سماعه كثيراً. فذهبنا إلى بيته، وقلت لهما إنه يكرمكما بدعوتكما إلى منزله. غير أنه تأخر ساعتين، على غير عادته. أراد أن يكسر كل ما نظموه في وعيهم. جهز لنا غداء ينافي طعام الشريعة اليهودية، على رغم أنه يعرف أن أحدهما متشدد، وكلما حاولا بدء إلقاء التعليمات على مسامعه، فتح هو موضوعاً آخر لا علاقة له بهدف اللقاء. استمرت المقابلة خمس ساعات، من دون أن نناقش حرفاً واحداً، ثم نهض وقال: حسناً، اعطوا ورقتكم لمحمد، وسيأتي بها إلى مكتبي لنناقشها. وهذا كان أول مسمار دقه في استراتيجية الوفد الإسرائيلي.
اللقاء الأول بين نتانياهو وعرفات كان على معبر ايريز. وحين علم «أبو عمار» أن نتانياهو لا يستطيع أن يبيت خارج منزله بأمر محكمة، على خلفية قضية مع زوجته، طلب أن يعقد اللقاء ليلاً. وفعلاً ذهبنا ليلاً، وتجادلت مع الوفد الإسرائيلي ساعتين في كيفية وصول الرجلين، من يأتي أولاً ومن يتبعه. بدأت المناكفة منذ اللحظة الأولى، كانت نكهة اللقاء الأول تكتيكية أكثر منها سياسية. كنت حاضراً، وأعددنا للرئيس كل ما يمكن توقع طرحه في اللقاء بالتفصيل. كانت الأمور تدرس في شكل جدي، بعيداً من الصورة الباهتة التي تحاول «حماس» رسمها، أي أن يذهب الوفد ليحصل «أبو عمار» على تعليمات. هذا ليس صحيحاً أبداً.
تحدث نتانياهو بعقليته الأميركية، محاولاً إلقاء محاضرة على «أبو عمار» ليسرّبها للصحافة في اليوم التالي. ففاجأنا الأخير بالحديث في موضوع آخر، وقال إن اللقاء هو الثاني الذي يجمعه مع رئيس لحزب «ليكود»، فركز نتانياهو على هذه النقطة، إذ كان اللقاء هو الأول لرئيس حكومة من «ليكود» مع زعيم فلسطيني. وحين سأل عن اللقاء المفترض، قال له «أبو عمار»: سأخبرك لاحقاً، وأُرسل لك مع دحلان محاضر اللقاء الأول. وبقي النقاش يدور ثلاث ساعات حول هذا الموضوع الذي لا أساس له.
لم يكن هناك لقاء سابق. لكن نتانياهو كان يرغب في مانشيتات صحافية في اليوم التالي عن شجاعته في تأديب عرفات، فأخرجه عرفات خاوي الوفاض. كان عرفات عظيماً ومبدعاً من الطراز الأول في تكتيكاته، لكن الرؤية الاستراتيجية الفلسطينية لم تكن مُحكَمة.
أريد أن أسألك عن سفينة الأسلحة «كارين - ايه» التي ضبطتها إسرائيل في العام 2002 وقالت إن إيران أرسلتها إلى السلطة الفلسطينية. ما قصتها للتاريخ؟
- إسرائيل كانت تتذرع وتريد دليلاً على تورط «أبو عمار» في هذه القصص. ووجدت هذه القصة لتضمن حرق ياسر عرفات، على رغم اقتناعي بأنه لم تكن له علاقة بهذا الموضوع. هل يعقل أن تُحضر سفينة من آخر الدنيا؟ معروف أن من الصعب إدخال سفينة كهذه إلى إسرائيل.
كنت آنذاك في مكتب عرفات، وكان موفد الرئيس الأميركي الجنرال (أنتوني) زيني جالساً معنا في اجتماع كان مقرراً ان يستمر ساعة ونصف ساعة للتوصل إلى اتفاق لوقف النار. وجاءني خبر من إسرائيل قبل دخول الاجتماع بأن سفينة ضبطت قبل يومين من دون علمنا، وسيعلن تورط عرفات فيها خلال مؤتمر صحافي ينوون عقده، خلال لقائه الجنرال زيني.
وصلتني هذه المعلومات عبر مصادري في إسرائيل. لدينا علاقات قوية مع صحافيين هناك، ونعرف عنهم بتواضع كما يعرفون عنا. وهذه خبرة اكتسبناها في السجون، أنا لا أنظر بدونية إلى الإسرائيليين، ولا أراهم أفضل منا في شيء. نحن على المستوى الفردي أفضل منهم جميعاً وأكثر تمسكاً بقضيتنا الوطنية، ولكن على المستوى الجماعي، هم لديهم مؤسسات.
المهم أنني أبلغت «أبو عمار»، فتصرف ببديهية قائلاً إن الأمر لا يعنينا. وأبلغ الجنرال زيني بما حدث، فقال له الأخير إن الحكومة الإسرائيلية استدعته بسبب هذا الموضوع. وبدأت أزمة بيننا وبين أميركا.
هل كانت أزمة فؤاد الشوبكي؟
- هم يعتبرون الشوبكي متورطاً فيها، واعتبروه المسؤول المالي عند عرفات، ولكن ليس هناك دليل. حتى الآن، لا تعترف السلطة بأن الشوبكي مرتبط بهذا الموضوع. كانت أزمة سياسية كبرى مع الإدارة الأميركية وإسرائيل، ثم حلت الأزمة مع واشنطن، وبقيت مع إسرائيل. وأصدر «أبو عمار» بياناً واتفقنا مع وزير الخارجية آنذاك (كولن) باول على إصدار بيان مقابل. وتم احتواء الأزمة، لكن إسرائيل أرادت منها ذريعة كبرى لتضرب القيادة.
مَن مِن الرؤساء الأميركيين كانت علاقته مع عرفات جيدة؟
- كانت العلاقة مع جورج بوش (الابن) سيئة جداً، وهما لم يلتقيا سوى في الأمم المتحدة في شكل عابر. أما مع كلينتون، فكانت العلاقة مميزة. كان كلينتون يحترم «أبو عمار». في عهده، وُقِعت أوسلو وأُجريت مفاوضات واي ريفر.
وهل التقى عرفات رؤساء أميركيين قبل كلينتون؟
- لا. كان بوش الأب في مفاوضات مدريد، لكن هذه المفاوضات أُجريت من خلال وفد الأردن.