لم يتعرض قيادي «فتحاوي» أو فلسطيني الى حملات كتلك التي تعرض لها هذا الوزير السابق والقائد السابق في «الأمن الوقائي»، خصوصاً بعدما بدا أنه حاز ثقة ياسر عرفات الذي أوكل إليه مهمات حساسة وخطيرة. وفي السنوات الأخيرة تحول دحلان «العدو الرقم واحد» لحركة «حماس» التي لم ترحمه ولم يرحمها. ضاعف من الحساسية رصيد الرجل في غزة ونجاحه الملفت في الانتخابات التي حملت إسماعيل هنية الى رئاسة الحكومة. ولا غرابة في ذلك، فدحلان كان اللاعب البارز في تأسيس حركة الشبيبة الفتحاوية في غزة، وهو أمضى أربع سنوات في المعتقلات الإسرائيلية قبل أن يبعد الى الخارج ليعود في 1994 وينغمس في عالمي الأمن والمفاوضات بناء على طلب عرفات.
قرأت كثيراً عن دحلان وسمعت كثيراً. إنه «رجل الأميركيين» و «رجل الإسرائيليين» و «رأس الفتنة»، على حد قول خصومه. وحين حملت إليه هذه الاتهامات رد ضاحكاً: «أنا رجل فلسطين ولا أقبل أن يزايد عليّ أحد». سألته عن اتهامه بالضلوع في الفساد فرد: «الملفات الآن في قبضة «حماس»، فلماذا لا تكشف ما فيها؟».
قبل سنوات فتحت «الحياة» صفحاتها لرئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» خالد مشعل وللأمين العام لـ «حركة الجهاد الإسلامي» رمضان شلح، وانطلاقاً من حق القارئ في معرفة مختلف الروايات، تفتح «الحياة» صفحاتها لدحلان عضو المجلس التشريعي الفلسطيني وعضو «المجلس الثوري» لحركة «فتح». حذر دحلان في حديثه من المخاطر المحدقة بالقضية الفلسطينية حالياً، مشدداً على ضرورة «إنقاذ «حماس» من سلوكها وإنقاذ الشعب الفلسطيني مما ارتكبته»، ومعتبراً أن «لا فارق بين حماس والقاعدة»، ومتهماً الحركة بتوقيت عملياتها الانتحارية لإحباط جهود عرفات. واعتبر أن الحل يتمثل في تنفيذ اقتراحات الرئيس محمود عباس (أبو مازن) بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية يتبعها اتفاق سياسي. تحدث دحلان عن علاقات عرفات برؤساء الحكومات الإسرائيليين، وهي كانت مضطربة وصعبة، باستثناء العلاقة مع إسحق رابين. وكشف أنه مر مع عرفات بعد منتصف الليل قرب المسجد الأقصى، ورأى الزعيم الفلسطيني مبتهجاً كطفل. وتحدث عن حصار «المقاطعة» وخوف عرفات من أن لا يسمح الإسرائيليون له بالعودة إذا ذهب للعلاج. وحكى قصة الساعات الأخيرة متذكراً ملامح عرفات ووفاءه.
وهنا نص الحلقة الأولى:
* ماذا تقول لياسر عرفات عن «حماس» وما فعلته؟
- أقول له باختصار أنت أفضل من عرف «حماس». ياسر عرفات هو أفضل من عرف «الإخوان المسلمين» وحركة «حماس». أنا شاركت معه في كل الحوارات مع الحركة. شاركت معه في بيته في شكل سري، وفي مكتبه. كان الشهيد أحمد ياسين والشهيد «أبو عمار» عقدا جلسات في بيتي في غزة في كل السنوات بعد أوسلو. كثير من اللقاءات كان يعقد في بيتي. شاركت معه في المفاوضات التي سبقت دخولنا الى السلطة، حين عرض عليهم الرئيس «أبو عمار» الدخول في المنظمة، وكان ذلك في السودان تحت رعاية الشيخ حسن الترابي، وشاركت معهم مرتين. ومن دون أن أسرد تفاصيل، أعتقد بأن الوحيد الذي يعرف حركة «حماس» أكثر مني هو ياسر عرفات.
* نريد قليلاً من التوضيح، ماذا يعرف عرفات؟
- الرئيس عرفات كانت مقتنعاً بأن حركة «حماس» ليست لديها رؤية أو رغبة أو برنامج وطني فلسطيني، لديها أفكار أممية غير قابلة للتطبيق.
* هل كان يقول ذلك؟
- «أبو عمار» كان خبيراً. كان في لحظة من اللحظات في صفوف «الإخوان المسلمين»، كانت لديه معرفة بحركة «حماس» وقيادتها شخصاً شخصاً، ليس بالمفهوم الأمني انما بتقدير رؤيته للرجال. لكنه أدار العلاقة معهم في طريقة صحيحة ليس فيها لا حسن نيات ولا سوء نيات. رؤيته وبوصلته كانت دائماً فلسطين وليس الأحزاب، وأنا لديّ كثير من الأفكار والأحداث والشواهد على فهمه العميق لحركة «حماس» وأدائها المتوقع. «حماس» كانت تنظر بعين سلبية الى الرئيس «أبو عمار»، خوّنوه وأساؤوا إليه ودمروا مشروعه السياسي في كثير من الأحيان. لم يحدث أن ذهب الرئيس «أبو عمار» في زيارة رسمية إلى أوروبا أو إلى واشنطن، إلا وجهزت له «حماس» عملية تحت بند النضال، والهدف إحراجه وإظهاره ضعيفاً. في كل الأحداث والتواريخ، لم نكن يوماً في البيت الأبيض مع الرئيس أبو عمار، إلا وتقوم حركة «حماس» بعملية عسكرية قبل الزيارة أو بعدها، واليوم تعرف حركة «حماس» موقفها، ولا أريد أن أسرد كيف تمنع المقاومة من وجهة نظرها. الرئيس «أبو عمار» كان على الدوام حريصاً على الوحدة الوطنية ولكن على أسس صحيحة، وليس الوحدة الوطنية كشعار، وليس على حساب الشعب الفلسطيني.
* هل كانت لديه مخاوف من ألا يكون برنامج «حماس» فلسطينياً؟
- لم تكن لديه مخاوف، بل كان مقتنعاً بأن برنامجها ليس فلسطينياً. كان يقول إن البرنامج كلما توسع وأصبح فضفاضاً أكثر، وعن الحقيقة، وكلما ابتعد عن الالتزام والثوابت. كان الهم اليومي له مستقبل الشعب الفلسطيني ووضعه، ليست لديه هموم أخرى. أن تقام دولة إسلامية في أفغانستان، لا يعنيه الأمر، ربما يمر عليها مرور الكرام، لكنها ليست قضيته. على رغم أنك تعرف أن الرئيس ياسر عرفات أكثر زعيم عربي تحدث عن الإسلام وأممية الإسلام. ولم تكن هناك دولة إسلامية إلا زارها وبنى معها علاقات مثالية، لكن عينه على القدس وفلسطين.
* إذا أردت وصف علاقة الشيخ أحمد ياسين بالرئيس عرفات، ماذا تقول؟
- كانت مثالية ومليئة بالمحبة والصداقة من الطرفين.
* وهل كانت هناك ثقة بينهما؟
- نعم.
* على رغم مخاوفه من «حماس»؟
- كانت له نظرة خاصة في الشيخ أحمد ياسين، وأن فلسطينيته عالية وارتباطه بالأرض قوي. كان يرى فيه رمزاً للنضال كونه مقعداً وسجيناً. ولا أحد يعرف، كما أنا أعرف، كم طالب في اجتماعات حضرتها مع رابين ونتانياهو وبيريز بالإفراج عن الشيخ أحمد ياسين. وحين جاء حادث محاولة اغتيال خالد مشعل في عمان، اتخذها الرئيس فرصة لتشجيع الملك حسين على ضرورة طلب إطلاق ياسين. وذهب مباشرة إلى عمان على رغم تحفظ كثير من القيادات الفلسطينية. قالوا له إذا أخرج الملك حسين ياسين فهذا إحراج سياسي لك، فقال: لا يمكن، أولاً الملك حسين أخي والشيخ ياسين صديقي، بالتالي لا توجد لديّ حساسية. وذهب إلى المستشفى وزاره، وحين عاد من عمان، ذهب ليستقبله في بيته وتعامل معه باحترام شديد.
* كنت تقول إن ياسر عرفات كلما ذهب في زيارة، كانت «حماس» تعد عملية. مَن أطلق العمليات الانتحارية في الأراضي الفلسطينية، «حماس» أو «الجهاد»؟
- «حماس» و «الجهاد» ثم التحقت بهما «فتح». «فتح» كتنظيم ليبيرالي ليس متطرفاً دينياً، لكنه نفذ أيضاً خلال الانتفاضة عمليات استشهادية. لا أريد أن أقوّم الآن مدى ضرر كل هذا العمل أو فائدته، لكن في التقويم العام لسنوات الانتفاضة السبع الأخيرة، خسائرنا أكثر من مكاسبنا، والدليل وضعنا الحالي. أحكم على الأشياء من نتائجها.
* مَن المسؤول عن عسكرة الانتفاضة؟
- جميعنا، وكانت خطأ جماعياً. دعني أعترف في شكل واضح، على رغم أنني شاركت في حماية الشعب الفلسطيني في الانتفاضة واتهمت من إسرائيل وكانت محاولة اغتيالي في ايريز في سيارتي. كانت محاولة اغتيالي أثناء وجود المبعوث الأميركي زيني، كنا في اجتماع رسمي. بعد هذا الاجتماع، أوصل الأميركيون الوفد الفلسطيني، وكنت أنا والأخ أمين الهندي وأبو العبد المجايدي، وحصل إطلاق نار على موكبنا، وإسرائيل اعترفت بذلك. كان في سيارتي نحو 80 طلقة لكنها كانت مصفحة. هذا الحادث كان يؤكد لي أكثر أن إسرائيل لا تريد وقف النار أثناء المحاولات المتكررة لوقف النار التي تدخل فيها المجتمع الدولي، وفشلنا نحن والإسرائيليون فيها.
* هناك من يقول إن عرفات كان يريد أن يفاوض ويقاتل في الوقت ذاته. هل صحيح أنه كان وراء بعض الأحداث العسكرية التي شهدتها الانتفاضة؟
- بحكم موقعي وأمانه الأحداث، لا يمكنني التحدث عن ذلك. لكن ياسر عرفات كان معنياً بحماية الشعب الفلسطيني. إسرائيل اعتدت علينا في الانتفاضة... اعتداءات دموية. على المستوى الشخصي وليس السياسي فقط، كان من واجب ياسر عرفات أن يحمي الشعب الفلسطيني بالدفاع عنه، لكن ياسر عرفات اتهم اتهامات كبرى من إسرائيل بأنه كان وراء الانتفاضة ويخطط للعمليات. لا أستطيع أن أتحدث عن ذلك. أعتقد بأن إسرائيل اكتشفت أنها ضخمت هذا الدور لتحميل المسؤولية السياسية للرئيس عرفات، وهو ما جاءت نتائجه سلبية بالنسبة الى الطرفين.
* من أطلق الانتفاضة الأولى؟
- الشعب الفلسطيني. القول إن القيادة قررت القيام بالانتفاضة مفهوم ساذج. أنا كنت في الأرض المحتلة، القيادة الفلسطينية هيأت أجواء الأرض المحتلة لمثل هذه الانتفاضة. الشهيد «أبو جهاد» والشهيد «أبو عمار»، تحديداً «أبو جهاد» لأنه كان مسؤولاً عن الأرض المحتلة، بنى بنية تحتية تؤهل لقيام انتفاضة. القطاع الغربي. من دعم مؤسسات الى بنائها ودعم جامعات ومعاهد وقطاع الطلاب والصحة. كان «أبو جهاد» يدعم كل القطاعات التي تنمي الروح الوطنية والقتالية، كان يدعم السجون. كان لدينا 15 ألف سجين فلسطيني، وهذه أكبر قوة قتالية للمنظمة، وأقوى ذراع تنظيمية للمنظمة داخل الأراضي الفلسطينية. صحيح أنهم كانوا داخل السجون ولكن كان لهم تأثير مميز على الحياة التنظيمية والسياسية الفلسطينية. تهيأت الأجواء والأسباب، وإسرائيل ارتكبت كل الحماقات الممكنة مع وجود حركة «فتح» كقوة تنظيمية جماهيرية كبرى. كنت مسؤول حركة الشبيبة الطلابية، هيأت كل الأجواء لقيام مثل هذه الانتفاضة أو الهبّة الشعبية. الانتفاضة التي بدأت في كانون الأول (ديسمبر) 1987، لم تدخلها «حماس» إلا في آذار (مارس) 1988، إذ كانت تعتبرها لعبة بين ياسر عرفات وإسرائيل. وتبلور الابداع الفتحاوي والفصائلي داخل الضفة وغزة كي ينتج القيادة الفلسطينية الموحدة. تبناها المرحوم «أبو جهاد» والشهيد «أبو عمار»، وبدآ يقدمان لها الدعم داخل الأرض المحتلة. لذلك، اعتبر أن قيادة ادارة الانتفاضة الأولى كانت أكثر إبداعاً واستشرافاً للمستقبل، واستطاعوا أن يرسموا صورة المحتل بأقوى صورها للمجتمع الدولي. في أول مرة ينجح النضال الفلسطيني الشعبي المقاوم الجماهيري الذي تشارك فيه كل فئات الشعب وطبقاته، الغني والفقير، وابن العائلة وابن المخيم، وابن القرية وابن البلد، والمرأة والفتاة والشاب والشيخ العجوز. هذه كانت أوسع مشاركة شعبية في عمل وطني جماعي، والانتفاضة استمرت من عام 1987 حتى أوسلو عام 1993.
بعد «كامب ديفيد»، كنا ننبه الأميركيين الى أنه إذا لم يحدث تطور أو اختراق جدي في عملية السلام، ستكون هناك ردود فعل كبرى من الشعب الفلسطيني، وأتذكر أنني كنت في اجتماع مع الدكتور صائب عريقات والوفد الإسرائيلي والوسيط دينيس روس في فندق «ريتز كارلتون» في بنتاغون سيتي في واشنطن قبل الانتفاضة بيومين، وقدمت تقريراً علنياً فحواه أنه إذا زار شارون الأقصى، ستكون شرارة انطلاقة مواجهات لا تحمد عقباها. لم تحرك الادارة الأميركية ساكناً، وشلومو بن عامي كان رئيس الوفد الإسرائيلي واستهتر بالكلام واستخدمه ضدي لاحقاً إذ أعتبر أنني كنت أعرف وأننا هيأنا الانتفاضة.
الانتفاضة الثانية لم تكن منظمة ومخططة أيضاً، لكن أجواء الشعب الفلسطيني كانت محتقنة سياسياً، فلم يحدث أن حصلنا على حقوقنا الوطنية حتى عام 2000، واستفزازات شارون في الأقصى كانت الشرارة التي أطلقت العنان لهذا الاحتقان طيلة الفترة السابقة.