يؤكد علماء النفس ان الانسان الكذاب هو مريض نفسيا ، يتميز بالجبن، وضعف الشخصية، ويوصف علماء النفس الكذب بانه عبارة عن مناورة دفاعية سببها الخوف او الجهل او عدم الثقة بالنفس. ويقول علماء الاجتماع ان الكذب هو ممارسة انتهازية يسعى الفرد او الجماعة او السلطة من خلاله الى الحصول على غايات او اهداف تحقق مصالحه/ مصالحهم، بغير وجه حق، من خلال خداع الغير، وتضليلهم، وطمس الحقيقة، والايهام بغيرها، ويستخدم الكذب في شتى المجالات السياسية ، والاقتصادية، والتجارية ، والادارية، والعلاقات الاجتماعية، وفي الاعلام ، والدين، والتربية، وكافة المعاملات البشرية الاخرى. ولكون الكذب من اخطر الافات البشرية واكثرها بشاعة ، ويشكل اساسا لكل الشرور فقد حرمتها كافة الاديان السماوية منها والارضية. و اجمعت البشرية على مر العصور والتاريخ عل استنكاره واعتبرته سلوكا مشينا وخسيسا. ومن يستخدمه سافلا نذلا ومنحطا. فالدين الاسلامي حذر من الكذب بشدة، وتوعد الكذاب بالعذاب الاليم يوم القيامة، ووصف الكذابين بالمنافقين، وانه يؤدي الى الفجور وكل انواع الشرور، واكد الله عز وجل على مرض الكذاب. قال الله عز وجل ' والله يشهد ان المنافقين لكاذبون' وقال تعالى ' في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب اليم بما كانوا يكذبون' وقال تعالى ' انما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون'. و ...عن الرسول صلعم 'آية المنافق ثلاث، ان حدث كذب، وان وعد اخلف، وان اؤتمن خان'. وقيل لرسول الله (صلعم) ' هل يزني المؤمن قال قد يكون ذلك، وهل يسرق المؤمن قال قد يكون ذلك، وهل يكذب المؤمن قال لا'. وفي حديث اخر قيل لرسول الله (صلعم) 'أيكون المؤمن جبانا فقال نعم فقيل أيكون المؤمن بخيلا فقال نعم فقيل أيكون المؤمن كذابا فقال لا'. ويقول النبي (صلعم) ' عليكم بالصدق فان الصدق يهدي الى البر، وان البر يهدي الى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا'. وفي حديث اخر ' ان الكذب يهدي الى الفجور، وان الفجور يهدي الى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا'. حتى الكذب على سبيل المزاح نهى عنه رسول الله قوله ' ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ثم ويل له'. وفي الديانتين المسيحية واليهودية تاكيد قوي على تحريم الكذب ، وتحذير من ممارسته، مقرونا بالتهديد بالعذاب الشديد. يقول المسيح عليه السلام ' فإن من كذب من غير علم أعذر ممن كذب على علم وإن كان لا عذر في شيء من الكذب'. وفي اليهودية جاء في التوراة عن الشيطان: 'إنه كذاب وأبو الكذاب'. ومع ذلك ورغم الرفض المطلق للكذب عند كل الشعوب والحضارات والملل والنحل والديانات الا انه ما زال ينخر في التركيب الاجتماعي للبشرية، ويزداد حضوره ويكثر استخدامه، كلما ازداد القهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، واصبح سمة من سمات التخلف والبدائية والرجعية والمتخلفة. والكذب هو عبارة منظومة كبيرة من السلوكيات يدخل في اطارها التزوير، والمبالغة، والتدليس، والتسويغ، والاسقاط، ، والاظهار والاشهار لشيء غير موجود، والنفاق الاجتماعي، التزلف، وبعض المجاملة، والنميمة، والوهم، والخداع، والشعوذة، والنصب ، والاحتيال، والدبلوماسيه بمعناها الشامل. وبالرغم من تحريم الكذب في كل الديانات ، والمجتمعات حتى الوثنية منها، حتى مجتمع قريش قبل الاسلام كان يعتبر الكذب دليل خسة ونذالة. وكان الكفار واهل الجاهلية يستنكرون الكذب ولا يقبلون به وسيلة لتحقيق مآربهم، فالتاريخ يذكر ان ابو سفيان زعيم قريش الكافرة وخلال احدى رحلاته التجارية الى الشام ، وسمع به هرقل امبر اطور الروم فارسل اليه يساله عن النبي محمد، ولما جلس بحضرته قال وهو يومئذ مشركا لم يسلم بعد قال : فوالله لولا الحياء من ان ياثروا علي كذبا لكذبت عنه او عليه يعني عن النبي (صلعم). بالرغم من ذلك فان الكذب ما زال منتشرا بشكل واسع على مستوى العالم ومنها البلدان الاسلامية والعربية، والاخيرة هي من يهمنا بالمقام الاول. وكما سبق ذكره فان الكذب يعتبر قاعدة الشرور، وطريقه تؤدي الى الفجور، واخطاره تشمل مختلف جوانب الحياة، ولكن الاكثر خطرا هو الكذب السياسي، او اكاذيب السياسيين، فالزوج الكاذب، او الزوجة الكاذبة، او التاجر الكاذب، او المدير الكذاب، و كل انواع الكذب المستخدم في الاطار الاجتماعي تظل انعاكاساته محدودة في اطار فردي او اطار مجموعة كبيرة او صغيرة، لكن السياسي الكذاب فانه يؤثر سلبا على كل المجتمع والوطن باسره.، لذلك يعتبراخطر انواع الكذب واكثرها تدميرا للمجتمع ، واكثرها سفالة وخسة ودناءة. والكذب السياسي يمكن ان يكون فرديا، كان يكذب المرشح للانتخابات البرلمانية، او مرشحا لاحدى النقابات المهنية، او مدير ادارة في احدى مؤسسات الدولة، او قائدا عسكريا على جنوده، ويظل هذا النوع من الكذب ادنى بدرجات من كذب الحزب السياسي، او الحركة السياسية، او السلطة السياسية. فالمخاطر التي تترتب على الكذب تتجه تصاعديا كلما انعكست اثاره على عدد اكبر من المواطنين. فعندما يدعي حزب سياسي او حركة سياسية و يقول مثلا ' ان المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية سوف تؤدي الى التنازل عن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني' فهذا كذب صريح وفيه تشكيك مبني على النوايا، ومبني على التوقعات ، والظنون، وليس على اسانيد ووقائع وادلة مادية ملموسة. فيما الاصح ان يتم التحذير والتنبيه والدعوة الى الحذر من التنازل، وهناك فرق كبير بين الموقفين، فالاول يدخل في نطاق الاتهام بدون ادلة، وبالتالي فهو اتهام باطل يدخل في اطار الافتراء والكذب الصريح، اما الثاني فيكون نوع من النصيحة وهو مطلوب وضروري وايجابي ومحمود. وعندما يدعي حزب سياسي بان اقامة الخلافة الاسلامية اصبحت على الابواب وان اقامة الخلافة فرض الهي في حين لا توجد اية في القران الكريم تشير الى ان نظام الحكم بالاسلام، يجب ان يكون على راسه شخص يلقب بالخليفة من قريب او بعيد، وعندما تكون الدولة التي اقامها الرسول (صلعم) في المدينة هي دولة بنظام مدني، ولم يسمي خليفة من بعده، وان المسلمين اختاروا ابا بكر لانه الوحيد الذي صلى الرسول خلفه، وان ابا بكر قضى فترة حكمه في اخضاع ثورة قام بها عدد من القبائل العربية في الجزيرة، وان امير المؤمنين (لاحظوا لم يكن لقبه خليفة ) عمر بن الخطاب قضى قتلا وهكذا عثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب مما يدل دلالة قاطعة على عدم استقرار نظام الحكم طيلة الفترة التي سبقت حكم امير المؤمنين معاوية بن ابي سفيان الذي ينسب له الفضل في اقامة الدولة العربية (الامبر اطورية) وتثبيت اركانها واشاعة الاستقرار والامن في ربوع الامبر اطورية، بعد هزيمته علي بن ابي طالب. عندما يتم تجاهل القران الكريم والتاريخ العربي والاسلامي وياتي حزب ليقول بان الخلافة فرض رباني، فهذا كذب صريح، وعندما يدعي بان الخلافة اصبحت على الابواب فهذا ايضا كذب صريح لان الاتجاه العام في الدول العربية هو تعزيز التوجه الديمقراطي والليبرالية والمشاركة الشعبية. وعندما تضع الاحزاب اليسارية قدم في ملعب حماس والاخرى في ملعب السلطة، وتدعي ان هناك قواسم مشتركة بين الطرفين ، وان هناك امكانية لاستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية عن طريق المحادثات، في وقت يعلن الدكتور محمود الزهار بان امارة غزة ستكون قاعدة لاقامة النظام الاسلامي في العالم، فان هذه الاحزاب تضلل الجماهير وهذا ايضا كذب صريح. وعندما يدعي وزير ان برنامج وزارته الاقتصادي سيؤدي الى ازدهار الاقتصاد الوطني وسيعالج الخلل البنيوي في الهيكل الاقتصادي، وهو يعلم انه لا يستطيع القيام بذلك، لان برنامجه الاقتصادي ومهما كانت اهدافه متواضعه فلن يستطيع تحقيقه الا اذا كان هناك برنامجا لتطوير مناهج التعليم المدرسي والجامعي يطرحه وزير التربية، واخر يطرحه وزير التخطيط، واخر يطرحه وزير الداخلية، أي بمعنى ان برنامج الوزير الاقتصادي ليس له قيمة اذا لم يكن جزء من برنامج كامل للحكومة باسرها لاحداث التطوير في كافة المجالات، فهذا الوزير عندما يدعي ان وزارته وحدها من بين وزارات الدولة ستحدث تغييرا في مجالها فانه يكذب كذبا صريحا. ولما تزخر خطابات راس السلطة بالوعود وتمتليء بالامال ودغدغة احلام المواطنين، او المبالغة ايجابا او سلبا أي عدم قول الحقيقة كما هي، ففي ذلك كذب صريح، وهكذا عندما تتكتم الحكومات على ما تبرمه من مواثيق وعهود واتفاقات مع الدول الاخرى فهي تطمس الحقيقة عن المواطنين، وفي ذلك كذب صريح. وعندما تزور الحكومة الانتخابات او تعمل على ان تاتي بنتائج مرضية لها فبهذا كذب صريح، وعندما يخفي السياسيون عن المواطنين ما يجري خلف الكواليس من صفقات وسمسرة، فهذا نوع من النصب والاحتيال وهو نوع من الكذب، وعندما تمنع الحكومة القوى السياسية من القيام بانشطتها وتمارس بحقهم التنكيل والاضطهاد، ففي ذلك نوع من الكذب القائم على اتهام القوى المناوئة لها بمعاداة الوطن، والعمل ضد مصالح المواطنين. وعندما تعجز السلطة السياسية عن تطوير بلادها وتحقيق الازدهار وتبرر ذلك بالشروط الموضوعية والذاتية فهذا ايضا كذب صريح، لان دور السلطة السياسية أي القيادة السياسية ان تتصدى للعقبات وتتغلب عليها وليس التعايش معها والخضوع لشروطها. وعندما تتغاضى السلطة السياسية عن جرائم النصب والاحتيال والاختلاس والفساد المالي والاداري التي يقوم بها من هم بالسلطة او اصحاب النفوذ ، فان في ذلك كذب صريح لانها لا تعترف بالوقائع وتخفي الحقيقة عن المواطنين وتظهر وتشهر ما هو غير موجود ومنافي للحقيقة. وتترعرع منظومة الكذب (التزوير، والمبالغة، والتدليس، والتسويغ، والاسقاط،، والنفاق الاجتماعي، والتزلف، والمجاملة، والنميمة، والوهم، والخداع، والنصب ، والاحتيال) في مختلف مؤسسات السلطة السياسية في العالم العربي ، فقط ما يميزبينها هو بعض التباينات بين دولة واخرى، وبين وزارة واخرى. اما على الصعيد الاجتماعي فحدث ولا حرج، فمنظومة الكذب وتفرعاتها متغلغلة في اعماق الكثيرين في مدن العرب وقراهم ونجوعهم وصحاريهم ، في الاسرة والمدرسة والجامعة وفي الاسواق، والمقاهي، وعلى الارصفة، وفي الحارات، والحقول، والمستشفيات، ، والنوادي الرياضية، والمحلات التجارية، والمصانع، والمعامل. وفي هذا المقام لا بد من الاشارة الى الكذب العاطفي في اشكاله المختلفة سواء كان على شكل الابتزاز العاطفي لاستدرار العطف والتعاطف، او المواساة العاطفية، او الاستغلال العاطفي، او التلاعب بالعواطف. ولان الكذب حرمه الله تعالى ورسوله الكريم والشرائع السماوية والوضعية، وبما ان الامة الاسلامية تستعد لاستقبال شهر رمضان الكريم، شهر الخير والبركة والعبادة، وفيه ليلة القدروهي خير من الف شهر، وتفتح السماء ابوابها للتوبة والمغفرة، وفيه تزكية للنفس وقرب من الله عز وجل، فيه تغلق أبواب النار وتصفط الشياطين وتفتح أبواب الرحمة،... فهل يكون هذا الشهر فرصة لنبذ واستنكار الكذب؟؟؟ هل تقوموا بالصيام عن الكذب كما تصوموا عن الطعام ؟؟؟ هل يكون الصدق رفيقكم وتتحروا الصدق حتى تكتبوا عن الله صديقين؟؟ هل تتفكروا بالمصائب والكوارث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية التي يتسبب بها الكذب؟؟؟ ندعو الله سبحانه وتعالى ان ان يرشد امته الهداية والعمل الصالح في هذا الشهر الفضيل وكل عام والجميع بخير. ابراهيم علاء الدين .